مقدمة
أذكر جيدا حوار دا بين عمر المختار وأحد المرابطين في أحد الجبال حين حوصروا في أواخر سلسلة جهادهم التي دامت قرابة ال 20 عاما، وانقطعت عنهم حينئذ المعونات القادمة من مصر، ولم يتبق معهم عتاد كاف.
أخبره المرابط بأن الأسلاك الشائكة الممتدة علي طول الحدود الليبية المصرية قد قطعت عنهم كل الإمدادات، ولم يتبق لهم سوي انتظار الموت، فما كان منه إلا أن قال له في حزم وعزم:
“الأسلاك ستنتصر، إذا مزقت معنوياتنا، عندهم ثلاثمائة ملايين حربة، عندنا الله وهو الأهم، وما إرادة الأسلاك يا بني مقارنة بإرادة الله؟!”
أقف مشدوها أمام ذلك القول وتلك العزيمة الصلبة، ولا يخلد ببالي إلا أن مثل هؤلاء المؤمنين المجاهدين قد جعلوا الأمر عسيرا شاقا كل المشقة علي من أتوا بعدهم، فقد رفعوا من سقف الإرادة والجهاد والعزيمة ما لا يقدر أحد أن ينازعهم في بلوغها إلي ذلك الحد.
إن الأسلاك وقتئذ لم تكن رغم صلابتها، ندا لعمر، بل كانت طوع إرادته وجهاده، أما الأن فنحن جميعا مطوقون لا بأسلاك شائكة فقط، بل بأصفاد عتيدة ثقيلة، نُجر بها كما يٌجر الأسري والمهزومين.
لو كان الثمن الوحيد المدفوع في تلك الحرب هو تمحيص المؤمنين من الكافرين، الخبيث من الطيب، المسلم الحق الذي يهمه أمر أخيه المسلم ولو في أقصي أقاصي الأرض من المنافق الذي لا يهمه سوي أن يتحصل له قوت يومه، وينام مطمئنا في مخدعه، وليُقتل من يُقتل، وتُغتصب من تٌغتصب، المهم أن يعيش ويُعلف بدنه كما تُعلف البهائم، أما دون ذلك فهو لا يدري، ولا يريد أن يدري من أمر أخيه شيئا، أن كان يعده أخا له من الأساس.
وأخيرا وليس أخرا، هناك مقولة بديعة، قوية البلاغة، شديدة الإيجاز، يطل بها بن خلدون من شرفة التاريخ علينا من سحيق الدهر الغابر، تصف حال المتنطعين اليوم وما هم فيه من بلاء.
قال:
“إن الإنسان إذا طال به التهميش، يصبح كالبهيمة لا يهمه سوي الأكل والشرب والغريزة”.
وبالرغم مما تحويه هذه الجملة شديدة الإيجاز من واضح المعني والدلالة، إلا بن خلدون قد غفل عن شئ ظلم به البهائم علي حساب أولئك النوع من البشر.
البهيمة بحكم طبعها حيوانا، مجبولة مسيرة فيما تفعل، لا تدري من أمرها شيئا ولا يٌعرض أمامها خيارات مختلفة لتختار أيهما أصلح وأقوم لها، وإنما هي تسير حيثما كتب لها السير، وحيثما أريد لها الفعل، إذن لا عيب علي البهيمة إذا تمارس ما جُبلت عليها قهرا من الحياة التي نطلع نحن عليها حياة البهائم.
أما الإنسان فهو الكائن الوحيد الذي يختار حياة التنطع بإرادته الكاملة، ويختار بهيميته الخاصة كما يريد، وكما قلنا لا عيب علي البهيمة فيما تفعل، وإنما العيب كل العيب علي ابن البهيمة الحقيقي الذي يري بأم عينيه ما يجري لإخوانه المسلمين من شتي أنواع الأذي والقتل والتعذيب ويغض الطرف عنهم، ولا يريد أن يعي ما يمر به إخواننا المستضعفين في غزة وفي كل أطراف الأرض من مشرقها ومغربها.
وفي النهاية أختم بقول الله عز وجل:
“وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ{166} وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ{167} الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{168} وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ”
ورحم الله الشيخ الشهيد، أسد الصحراء، عمر المختار.